+ ولد القديس أبو فانا في ممفيس سنة 355 ميلادية من أبوين تقيين وبارين ، وكانا غنيين في النعمة والثروة فكانا يمتلكان أموالاً كثيرة، فقد نشأ في بيت شريف وأسرة تقية، فنشأ في حياة القداسة وصلابة الايمان ودفء الحياة المسيحية، مما كان له أعظم الأثر في حياته المبكرة فمنذ طفولته استقى الكتب المقدسة وتعاليم الكنيسة (2تي 3 :15) تعلم القديس حياة الصلاة والصوم والعطف على الفقراء فقد كان والداه يصنعان صدقات كثيرة، فأحب الرب ووصاياه منذ طفولته ، ولما بلغ سن الشباب لم يكن مثل أقرانه في القرية، إذ كان يقضي وقته في الصلاة والتسبيح وعاش حياة الطهارة وأحبها ، وكان بالحقيقة إناء نقياً مقدساً لسكنى الروح القدس فيه ، وكان طويل القامة هادئ الوجه وكانت نعمة الله حالة عليه ، وكان كل من يراه يحس بالراحة في نفسه ويدخل السلام إلى قلبه ، وكان يوماً بعد يوم ينمو في النعمة والقامة وتتزايد أشواقه بمحبة شديدة لطرق الرهبنة.
+ سطعت أنوار الكاملين في الصعيد فقد ازدهرت الحياة الرهبانية وتزايدت جماعات الرهبان والمتوحدين، وصارت كأشجار خضراء مثمرة أمتلأ بها بستان الرهبنة في مصر العليا، وانتشرت فضائلهم وتناقلتها الأخبار خاصة هوءلاء النساك ويقتني الكنز المخفي، فكان يدرب ذاته أن يقتني كل فضيلة يسمع عنها أو يراها فيمن كان يزورهم من الآباء، وفي حياة جادة كان يجاهد في الفضائل ويجهد ذاته في عبادات شاقة، فتدرب على حياة السهر والصلاة وعلى تعب الجسد والنسك في الأصوام وحفظ المزامير، وكان في وقت راحته يعمل بيدية في ضفر الخوص وصنع الليف وكان يبيعه ويشتري بثمنه ما يحتاجه من ضرورات المعيشة ثم يتصدق بالباقي على المحتاجين الذين كانوا دائماً يقصدونه لسد أعوازهم.
فقد كان القديس يحمل في داخله قلباً عطوفاً رقيقاً يسرع لكي يغيث المتضايقين ويحمل الملابس لمن يحتاج إليها ويطعم كل فم جائع، وكان يداوم على زيارة المرضى، وافتقاد المحبوسين في السجون ويسرع لكي يسد احتياجاتهم.
والقديس أبو فانا عاش في النصف الثاني من القرن الرابع، ولو افترضنا أن حياته استمرت بين عامي (355 – 415م) فيكون بذلك قد عاصر الأنبا شنودة رئيس المتوحدين وعظماء القديسين والمرشدين الأوائل في رهبنة الصعيد، ومما لا شك فيه أن القديس أبو فانا قد تأثر بهؤلاء القادة وأسس جماعته الرهبانية على منوالهم، فتأثر بحياة الشركة التي وضعها القديس باخوميوس ، كما تأثر بطريقة الأنبا شنودة في الاهتمام بالارشاد وضرورة التعليم للجماعة الرهبانية التي جمعت حوله، ويذكر التاريخ أن دير القديس أبو فانا قد ضم إليه أكثر من 1000 راهب وكان من أوائل الاديرة في الصعيد، وعاش أولئك الرهبان في ما يعرف بنظام المنشوبيات وهو نظام يجمع بين حياتي الشركة والوحدة في آن واحد، فكان كل جماعة من الرهبان من حرفة واحدة أو من قرية واحد يسكنون في منشوبية، والمنشوبية عبارة عن عدة قلالي متجاورة كل راهب يسكن منفرداً في واحدة منها .
+ تزايدت أشواق أبو فانا لحياة الوحدة والانفراد في البرية بعيداً عن ضجيج العالم وأهوائه ليلتصق بالمسيح الذي أحبته نفسه، وبعد أن كان قد تردد لسنوات كثيرة يتعلم ويتدرب على يد ساكني الجبل من الرهبان والمتوحدين وتتلمذ على يد الشيوخ والمرشدين ، وقد نما الغرس الحسن واشتد عوده ، وحان الزمان أن ينقل من حياته وسط الناس إلى الأرض الخصبة ليأتي بثمر أكثر، فعزم على أن يترك مسكنه فوزع ما كان يمتلكه وقصد الجبل ليحيا وسط هؤلاء النساك ليشاركهم في حياتهم الخشنة عزوفاً عن كل تعزية أو صدااقة بشرية، لكنهم مملؤون من التعزيات الروحية والفرح السمائي والسلام الذي يفوق كل عقل ، فقد أحب حياتهم ووضع في قلبه أن يتشبه بجهادهم وزهدهم، وسرعان ما أحضر الميراث الوفير لعائلته المرموقة من ممفيس ووزعه على الفقراء حينما ترك ممفيس إلى هيروموبوليس.
+ في سنوات شبابه لم يكن القديس يمتلك شيئاً لنفسه إذ تدرب على حياة التقشف والزهد، وبعد أن وزع أمواله على الفقراء كان عظماء تلك الجهات القريبة يأتون إليه وهم يخضعون له في مهابة عظيمة ، وجاء إليه كثيرون وقدموا إليه أموالاً كثيرة أما هو فلم يأخدها منهم ولكن حينما ألحو عليه أن يقوم بتوزيعها على الفقراء كان يسير في المدن والقرى وقد تطول فترة تجوله إلى عشرة أيام وهذه كان يقضيها القديس في صوم انقطاعي دون طعام أو شراب.
+ النفس التي امتلأت بمحبة المسيح وفاضت فيها تلك المحبة تحس أن السيد المسيح هو الذي يرجع إليه الفضل إذ هو الذي أحبها وسكب هذه المحبة فيها، هذه النار التي قال عنها "جئت لألقي ناراً على الأرض، ماذا أريد لو اضطرمت" (لو 12 : 49) ، وحينما تشتعل هذه المحبة في النفس تندفع بإخلاص وحب شديد، تجلس تحت أقدام من أحبها وتقدم له أغلى ما تملكه حتى لو هاجمها الآخرون وسخروا منها واتهموها بالإتلاف (مت 26 : 8).
ليس أمام هذه النفس إلا شيء واحد هو التعبير عن محبتها للمسيح مشتاقة أن تصير كلها ملكاً له بعيداً عن الناس وعن كل شيْ في العالم. هكذا كانت الأشواق المتزايد في قلب أبو فانا في الجبل تاركاً خلف ظهره العالم واضعاً أمجاده وشهواته تحت قدميه.
وفي الجبل الغربي خارج قرية أبو صير (بالقرب من قصر هور في الأشمونين) وجد مغارة مظلمة لا يدخلها نور النهار ففرح بها وكأنه وجد ضالته المنشودة (المغارة مازالت قائمة إلى اليوم وهي تبعد 80 متراً يمين مباني الدير وهي مختبئة تحت الأرض ولم تكشف بعد)، ولم يكن الماء متوافراً في المكان ، وكان الرهبان يقطعون مسافات طويلة ليحصلوا على الماء من بعض الآبار المتناثرة.
لكن القديس أبو فانا حينما سكن المغارة وقد وضع رجاءه على الله الذي أحبه من كل قلبه مشتاقاً أن يعبده ويلتصق به في هذا المكان بعيداً عن العالم، حدثت أعجوبة عظيمة إذ أنبع الله ينبوع ماء عذب عند مدخل مغارته. وكم كانت دهشة القديس لهذه المعجزة العظيمة، وامتلأت نفسه بتعزية كثيرة بسبب تلك العناية الإلهية. وهذه العلامة التي صارت من السماء والتي اطمأنت لها نفسه في أن الله أراد له أن يقيم في هذا المكان، فسكن القديس المغارة كل سنوات جهاده.
+ في الوحدة المقدسة بالمغارة حالكة الظلام حيث انفرد القديس أبو فانا وكان يبلغ من العمر 22 عاماً ، سلك طريق الجهاد الروحي الذي كان قد تدرب عليه قبل أن يجيء إلى الجبل، وكان كل يوم يزداد في جهاده حتى أضنى جسده بالصوم الكثير، فكان يحدد لنفسه مقدار ما يأكل كل يوم من الخبز، وتدرب أن ينقص منه بالتدريج حتى صار مقدار ما يأكله كل يوم يسيراً جداً، ما كان فقط ضرورياً لقوت الجسد ومن شدة نسكه أنه لم يذق طعاماً مطهياً ، فما من مرة احتفظ لنفسه بطعام مطهي أحضره له إنسان، كما تدرج في صوم الانقطاع حتى صار يصوم في الشتاء يومين يومين وفي الصيف كان يتناول القليل من الخبز والماء والبلح الجاف عشية كل يوم، وكان يصوم الأربعين المقدسة طياً بكاملها عدا الثلاثة الأيام الأخيرة فكان يأكل فيها شيئاً يسيراً.
وذات مرة سأله تلميذه افرآم عن سبب افطاره الثلاثة أيام فأجاب القديس باتضاع عظيمم: إن السيد المسيح صام أربعين يوماً ولم يكن في حاجة إلى الصوم، هؤلاء الذين صاموا على مثال السيد المسيح ، وأكملوا أربعين يوماً كانوا قديسين كاملين ، لكن من أنا المسكين حتى اتساوى مع الذين اختارهم المخلص كموسى وايليا، وأنا يا ابني انسان ضعيف، وهكذا كان القديس أبو فانا يحب الاتضاع ويكره الافتخار ويهرب من الكبرياء.
وكان قانونه ثلثمائة مطانية أثناء الليل ومثلها في النهار، وأحب حياة السهر فكان يقضي الليل كله في الصلاة وإذا غلبه نعاس النوم كان يرقد على الأرض الخشنة ، ولم يكف القديس عن تزايده في التعب حتى أنه كان دائم الوقوف على رجليه في المغارة، وعندما كان يتناول الطعام كان يتناوله وهو واقف على رجليه حتى تورمت رجلاه من كثرة الوقوف ولصق جلده بعظمه من شدة النسك وصار مثل خشبة محروقة، ومع ذلك لم يخفف من كثرة أتعابه.
وظل مداوماً في الجهاد والنسك حتى صار جسده محنياً ومقوس الظهر، ولم يعد يمكنه أن يرقد ممدداً جسده على الأرض، فكان كلما غلبه النعاس ينام وهو يستند متكئاً بصدره على جدار مقام له خصيصاً وبنى لهذا الغرض، وبالتأكيد كان نوم غير مريح، فكان يغمض عينيه ويميل برأسه مستنداً على الحائط وظلت هذه طريقة نومه ، وهكذا قضى ثمانية عشر سنة حتى يوم نياحته، وبسب هذا العيب الجسدي سمى القديس بالنخلة بسب تقوس ظهره من النسك الشديد الذي كان يمارسه في حياته.
+ أراد الله أن يخرج النور من المغارة المظلمة فأخذ السراج المخفي فيها ووضعه مرتفعاً ليضيء ليس لجيله فقط بل ليظل مضيئاً عبر أجيال كثيرة بعده، فقد فاحت رائحة قداسة رجل الله وانتشر أريجها فجذبت إليه الكثيرين من الشبان محبي الطهارة والتسبيح ، وأشرقت من المغارة أنوار صلاته لأولاده فأتوا بأعداد كثيرة يستضيئون بتعاليمه ويحيون بدفء محبته ومتمثلين باتضاعه ووداعته.
فكانت روحانية القديس لها أعمق الأثر في نفوس أولاده، وكانت دموعه التي سكبها غزيرة أثناء صلاته تروي تلك الغروس من تلاميذه الجدد وأولاده الروحيين الذين التصقوا به ,ارادوا التشبه بحياته.... ولم تمر سوى سنوات قليلة حتى تكاثر أولاده جداً، لأن كل من كان يأتي إليه يحبه من أجل محبته واتضاعه، وكانت قداسته الفائقة تخترق أعماق نفوسهم وتشعل فيها الأشواق للحياة الرهبانية، وعندما اجتمع حوله المئات من الرهبان ابتدأ ينظم لهم حياة جهادهم في الصوم والصلاة وشغل اليدين ، وكان لا يفتر عن تعليمهم وارشادهم وتشجيعهم على تلك الحياة الملائكية ويدربهم على سكنى القلاية ومحبة الوحدة والصلوات الكثيرة سواء في وحدتهم أو في حياة الشركة مع الأخوة وكان كلما وجد منهم من يتقدم في النعمة يلبسه إسكيم الرهبنة المقدس، وكان تلميذه افرآم يلازمه دائماً، وكبرت شجرة القديس وكثرت ثمارها فقد امتلأ الجبل بالرهبان القديسين حتى صار أشبه بخلية نحل تعمل في صمت ونظام هادئ فامتلأت المغارات بشهد من عسل صلاتهم وطهارتهم ، أو أشبه ببرج حمام تنطلق منه أصوات هدير الحمام هكذا كانت أصوات التسبيح تنطلق من تلك القلالى (المنشوبيات).
+ نياحته وجسده الطاهر: بعد سنوات مملوءة بالجهاد، وحياة مزدهرة بالثمر المتكاثر تزايد شدة المرض على الجسد الضعيف حتى أصبح ملازماً للفراش.... وفي صبيحة يوم السبت 25 أمشير، وقبل أن يشرق نور الشمس أتاه المسيح يدعوه ليختم جهاده وينتقل من هذا العالم، فوقف قائماً ودعا أولاده وأخبرهم بأن المسيح يدعوه إليه وأعلن لهم أن الله أراد أن يريحه وأشار بإقامة القداس الإلهي، وبسرعة تطايرت الأخبار وانتشرت في الجبل وهرعت جماعات كبيرة من الرهبان والشيوخ، وبعد صلاة القداس تقرب القديس من الأسرار المقدسة، وبالرغم من ضعفه وشيخوخته كان واقفاً على قدميه ولم يجلس قط، وودعه الرهبان وتقدم حوله أولاده وتتباركوا منه وفي تواضع طلب منهم القديس أبو فانا أن يباركوا هم عليه، وودعوه ببكاء وتباركوا منه وبعد أن رفع القديس قلبه في صلاته الأخيرة أمال رأسه إلى جانب المكان الذي كان ينام فيه وأسلم روحه بيد الرب القدوس لتصعد وسط جوقة من الملائكة وأرواح القديسين وللوقت فاحت من جسده المقدس رائحة طيب زكية ملأت المكان، فقام الأخوة وكفنوه ودفنوا جسده الكريم بإكرام عظيم، وكان الجميع يأتون إلى مكانه وأظهر الرب من جسده الطاهر آيات كثيرة وعظيمة.
من معجزات القديس : انقاذ الشعب من المجاعة.... كان قساً يلازم أبينا أبو فانا ليقدس عنده ويتناول من يده الأسرار الإلهية المقدسة جاء إليه يوماً وهو باك وجع القلب وعندما فرغ من صلاة التقديس وجلس مع الأخوة قال له القس: يا أبانا إن القحط قد وقع بكثرة وتتضور الناس في الشوارع من كثرة الجوع، فصلى القديس أبو فانا حتى يرحم الله خليقته وينقذها من المجاعة. ... فأرسل الرب إليه الملاك ميخائيل ولما رآه جزع منه فقال له الملاك "يا فانا، يا فانا، يا فانا، لا تجزع ولا يخف قلبك فان الرب أرسلني إليك "فأجاب أبو فانا الملاك" ها أنا ذا".
وقال له الملاك: "انطلق إلى مدينة (أسيوط) وعلى سائر أهلها، فإن الرب يعرف كيف يعول سائر العالم ويدبر أمر خليقته. فقال أبو فانا من أين لي أنا المسكين الحقير ما يقوم بأهل المدينة وأنا لا أقدر أن أعول رجل واحد خاصة في هذه الأيام المجدبة والقحط، اغفر لي يا سيدي. فقال له الملاك "إذ لم تقدر أن تعول نفساً واحدة ولا نفسك أيضاً، لكن الله يعول خليقته حتى ولو كانت كرمل البحر وهو سمح بالمجاعة لتأديبهم ولمنفعتهم" وحينما دخل القديس إلى المدينة ورفع يديه بالصلاة انقشعت ظلمة المجاعه عنها.