همسات روحية
لنيافة الأنبا رافائيل
لحن "أومونوجينيس"
لحن عظيم يُقال أن مؤلفه هو القديس أثناسيوس الرسولي، أما موسيقاه فمستقاه من أصل فرعوني. ويُقال هذا اللحن يوم الجمعة العظيمة في صلاة الساعة السادسة، التي فيها سُمِّر السيد المسيح على الصليب، ووقفت الخليقة كلها مبهوتة أمام هذا الحدث العجيب العظيم، تتساءل كيف يموت الحي؟ وكيف يُهان العظيم؟ وكيف يُغلب الخالق بيد خليقته؟!!
أما الكنيسة المُقدَّسة عروس المسيح، التي تَعرف سره جيدًا، فتقف أمامه منحنية، تعلن إيمانها بقوة لاهوته، واحترامها لسر آلامه، وشكرها لنعمة فدائه ... فتهتف بهذا اللحن الوقور قائلة:
(1) أيها الابن الوحيد (أومونوجينيس):
إنه الوحيد المولود من الله الآب .. لذلك فهو الوحيد الذي يحمل جوهر أبيه الصالح.
كل كائن يلد كائنًا آخر يحمل نفس جوهره. فالأسد يلد أسدًا، والغزال يلد غزالاً، والإنسان يلد إنسانًا ... أما الله فله ابن وحيد، مولود منه قبل كل الدهور، مساو له في الجوهر والأزلية، وغير منفصل عنه. وكما أن الآب حي .. فابنه لابد أن يكون أيضًا حيًا مثله، ولا يمكن أن يموت.
& "كُلُّ مَنْ يؤمِنُ أنَّ يَسوعَ هو المَسيحُ فقد وُلِدَ مِنَ اللهِ. وكُلُّ مَنْ يُحِبُّ الوالِدَ يُحِبُّ المَوْلودَ مِنهُ أيضًا" (1يو5: 1).
& "لأنَّهُ كما أنَّ الآبَ لهُ حياةٌ في ذاتِهِ، كذلكَ أعطَى الِابنَ أيضًا أنْ تكونَ لهُ حياةٌ في ذاتِهِ" (يو5: 26).
(2) كلمة الله الذي لا يموت، القابل كل شيء لأجل خلاصنا:
هذا الإله غير المائت "الذي وحدَهُ لهُ عَدَمُ الموتِ" (1تي6: 16)، مثل أبيه الحي غير المائت .. رضي بإرادته أن يقبل أي شيء (حتى الموت) لأجل خلاصنا، لأنه يحبنا:
& "الذي مِنْ أجلِ السُّرورِ المَوْضوعِ أمامَهُ، احتَمَلَ الصَّليبَ مُستَهينًا بالخِزيِ، فجَلَسَ في يَمينِ عَرشِ اللهِ" (عب12: 2).
إن آلامه من أجلنا هي موضوع سروره ومجده.
(3) المتجسِّد من القديسة والدة الإله الدائمة البتولية مريم:
لكي يتألم عنَّا ويموت، كان لابد له أن يتجسَّد من أم عذراء قديسة طاهرة في كل شيء، تعطيه ناسوتًا كاملاً مثلنا بالتمام، لكي يشابهنا في كل شيء ما خلا الخطية، وليذوق الموت نيابة عنَّا لأجل خلاصنا:
& "والكلِمَةُ صارَ جَسَدًا وحَلَّ بَينَنا، ورأينا مَجدَهُ، مَجدًا كما لوَحيدٍ مِنَ الآبِ، مَملوءًا نِعمَةً وحَقًّا" (يو1: 14).
(4) بغير استحالة المتأنس المصلوب المسيح الإله:
لم يتحول اللاهوت إلى ناسوت، وكذلك لم يتحول الناسوت إلى لاهوت .. بل تم الاتحاد بطريقة فريدة ليس لها مثيل، بغير اختلاط، ولا امتزاج، ولا تغيير، ولا استحالة، ولا تشويش، ولا تلاشِ، ولا انفصال .. فصار الله إنسانًا دون أن يفقد لاهوته، ودون أن يتغير اللاهوت، وكذلك الجسد الذي اتخذه لم يتحول عن الطبع الآدمي بسبب الاتحاد، لكي يُخلِّصنا بتأنسه وصلبه وهو الإله.
(5) بالموت داس الموت أحد الثالوث القدوس:
لم يكن موته ضعفًا ولا هزيمة، بل كان نصرة "فإنَّ كلِمَةَ الصَّليبِ عِندَ الهالِكينَ جَهالَةٌ، وأمّا عِندَنا نَحنُ المُخَلَّصينَ فهي قوَّةُ اللهِ" (1كو1: 18). والذي أتم هذه الغلبة على الموت هو الابن الوحيد، أحد أقانيم الثالوث القدوس "الممجد مع الآب والروح القدس خلَّصنا".
(6) قدوس الله الذي من أجلنا صار إنسانًا بغير استحالة وهو الإله:
بدءًا من هذا الجزء في اللحن، تبدأ الكنيسة في عمل مقارنة، يظهر فيها تناقض عجيب، ولكن في اتفاق، لأن السيد المسيح جمع في ذاته المتناقضات، ليوحدها في شخصه .. ففيه الألوهية، وفيه أيضًا الإنسانية بسبب اتحاد اللاهوت بالناسوت.
فأولاً تتعجب الكنيسة في اللحن .. كيف أن الله القدوس يصير إنسانًا من أجلنا، ولا يتحول عن لاهوته ويظل هو الإله.
(7) قدوس القوي الذي أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة:
وأيضًا تتعجب كيف أن القوي القدوس، يظهر أنه ضعيف، بينما هو يعمل بهذا الضعف ما هو أعظم من القوة "لأنَّ جَهالَةَ اللهِ أحكَمُ مِنَ الناسِ! وضَعفَ اللهِ أقوَى مِنَ الناسِ!" (1كو1: 25).
لقد غلب الشيطان والموت والخطية، وغلبهم بالضعف والموت:
& "ولكن مَتَى جاءَ مَنْ هو أقوَى مِنهُ (أقوى من الشيطان) فإنَّهُ يَغلِبُهُ، ويَنزِعُ سِلاحَهُ الكامِلَ الذي اتَّكلَ علَيهِ، ويوَزعُ غَنائمَهُ" (لو11: 22).
& "أين شَوْكَتُكَ ياموتُ؟ أين غَلَبَتُكِ يا هاويَةُ؟" (1كو15: 55).
& "ثِقوا: أنا قد غَلَبتُ العالَمَ" (يو16: 33).
(8) قدوس الحي الذي لا يموت، الذي صُلب من أجلنا، وصبر على موت الصليب، وقَبِله في جسده وهو أزلي غير مائت:
التعجب الثالث، أن الحي غير المائت يذوق الموت بالجسد من أجل خلاصنا، ويقبله في جسده، بالرغم من أنه أزلي وغير مائت، ولكنه يحبنا وقد قَبِل كل شيء من أجل خلاصنا.
حقًا إن محبته لنا ينطبق عليها مواصفات الحب الحقيقية التي "تَحتَمِلُ كُلَّ شَيءٍ، وتُصَدقُ كُلَّ شَيءٍ، وترجو كُلَّ شَيءٍ، وتصبِرُ علَى كُل شَيءٍ" (1كو13: 7).
(9) أيها الثالوث القدوس ارحمنا:
أخيرًا تُوجِّه الكنيسة تسبيحها إلى الثالوث القدوس، لكي يرحمنا بقوة دم المسيح، وصليبه المُحيي، وشفاعته الكفارية عنَّا، التي توسط بها لدى الآب، ليرفع عنَّا خطايانا وحكم الموت برحمته.
حقًا إن هذا اللحن عظيم جدًّا تقدِّم فيه الكنيسة مشاعرها الغنية الفياضة، مع إعلان إيمانها بألوهية الابن المصلوب من أجلنا .. له كل المجد في كنيسته.