المسيح الغالب في التجربة (1)
تختار الكنيسة لنا فصل التجربة في بداية رحلة الصوم، مع أنّنا نلاحظ أنّ تجربة السيّد المسيح على الجبل وانتصاره على إبليس كانت في نهاية فترة الصوم التي صامها لمدّة أربعين يومًا.. لعلّ الكنيسة تريد أن تقول لنا أنّ في نهاية رحلة الصوم سيكون هناك انتصار وغلبة، وبالصوم نؤهّل لهذه الغلبة، وبالصوم أيضًا نؤهّل لخدمة الملائكة، كما جاءت الملائكة لخدمة السيّد المسيح بعد انتصاره في التجربة (مت4: 11). فنتشجّع ونتقوّى في بداية رحلة الصوم.. وكأنّ الكنيسة تؤكِّد لنا أنّ الذي سيشارك مع المسيح في رحلة الصوم سينال قوّة وحكمة ونعمة لغلبة الشيطان وكلّ حِيَلِهِ الخبيثة..
لقد قبل السيّد المسيح هذا التحدِّي من عدو الخير، لكي يضيف هذه النُصرة لحساب البشريّة.. لقد خسرت البشريّة كل الجولات السابقة لتجسُّد المسيح، أمام عدو مُحتال وشرس، حتّى أنّ الكتاب المقدّس شهد: "الجميع زاغوا وفسدوا معًا.. ليس مَن يعمل صلاحًا، ليس ولا واحد" (رو3: 12)..
ربنا يسوع جاء لمواجهة عدو الخير في معركة لحساب البشريّة.. لقد لبس جسدنا ليحارب حربنا.. مثل ملك قوي عظيم لبس ملابس الجنديّة ودخل وسط جنوده ليقوّيهم، ويحارب معهم، وينصرهم على عدوّهم.. هكذا أخذ المسيح جسدنا لكي يحارب عدوّنا ويكسره أمامنا ويرفعنا عليه.. فكلّ إنسان يؤمن ويعتمد ويثبت في المسيح ويسير وراءه حاملاً الصليب، يتمتّع بهذا الانتصار على الشيطان في حياته، ويهتف مع معلّمنا القديس بولس: "شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته.." (2كو2: 14)..
السيّد المسيح هو قائدنا في المعركة الروحيّة.. هو قائد ميداني.. لا يوجّهنا فقط من بعيد، بل ينزل معنا في ميدان المعركة، في وسط التجارب والأزمات، ويحارب معنا لكي ننتصر به..
هو يهمّه جدًّا أن نغلب، وأن يكون أولاده دائمًا منتصرين.. لذا فهو يضع كلّ إمكانيّاته وأسلحته الكاملة بين أيدينا، لكي نكون باستمرار رافعين رؤوسنا، محاربين عدوّنا بكلّ شجاعة، واثقين أنّه "إن كان الله معنا، فمَن علينا؟!" (رو8: 31)، واضعين دائمًا أمام أعيننا هذه الحقيقة الهامّة: "أنتم من الله أيها الأولاد وقد غلبتموهم، لأن الذي فيكم أعظم من الذي في العالم" (1يو4:4)..
هنا نأتي إلى حقيقة هامّة، أنّنا لا يمكن أن ننتصر أبدًا بمفردنا.. بدون قوّة الله معنا يستحيل أن ننتصر.. هكذا فَهَمَ القديسون عبر التاريخ، أنّ قوّتهم الحقيقيّة في الثبات في الله.. فعندما ننظر إلى داود مثلاً، وهو يدخل في معركة غير متكافئة أبدًا مع العملاق الفلسطيني جليات، قال له أنّك إذا كنتَ تستمدّ قوّتك من سيف ورمح وترس وقوّة جسمانيّة مع خبرة حرب طويلة، فإنّني أستمدّ قوّتي من مصدر آخَر أعظم بكثير "أمّا أنا فآتيك باسم رب الجنود.." (1صم17: 45).. لقد كان داود يدرك مصدر قوّته، لذلك نراه يناجي الله باستمرار قائلاً: "أحبك يارب يا قوّتي" (مز18: 1).. "خاصم يارب مخاصميّ، قاتِل مقاتليّ.. انهض إلى معونتي.. قُل لنفسي خلاصُكِ أنا" (مز35: 1-3).
أولاد الله يفهمون أنّ الله مصدر غَلبتهم.. لذلك يحبون التناول من الأسرار المقدّسة، لأن التناول يزوّدهم بقوّة إلهيّة، ويثبِّتهم في المسيح قائد نُصرتهم.. ويحبّون الصلاة لأنّها تُشبِع قلوبهم، وتقوّي أجهزة المناعة الروحيّة فيهم ضدّ الخطيّة، وتملأ قلوبهم بالسلام مهما كانت شراسة الحرب.. ويحبُّون الصوم لأنّه يقوّي إرادتهم ويسمو بهم فوق رغبات الجسد، فيختبرون الانتصار في داخلهم قبل مواجهة أي عدو خارجي.. ويحبُّون أيضًا كلمة الله ويحفظونها، فهي سلاحهم الجبار في مواجهة سهام إبليس المسمومة..!
أولاد الله غالبون بقوّة المسيح الغالب.. فهو الذي يطرد عنهم كلّ أفكار البُغضة، وأفكار الكبرياء، وشهوات العالم وأطماعه وأباطيله المعروضة عليهم.. المسيح هو القادر أن يغلب ويسحق العدو، أمّا أولاد الله فكل عملهم واهتمامهم أن يثبتوا فيه بكافّة الوسائل، وهو يحارب عنهم فينتصروا بقوّته..!
المسيح دخل حربًا مع إبليس على الجبل لكي ينتصر لحسابنا.. فكلّ مَن يثبت فيه ينتصر معه